إدارة الدراسات الإسلامية
EN ع

الأمة الإسلامية اليوم

كيان الإنسان متربع على مفتاحين, كيان يتركز على الفكر و الواقع, على العقل والمنطق, وكيان يميل إلى القلب والإحساس, إلى الشعور والعاطفة
 

كيان الإنسان متربع على مفتاحين, كيان يتركز على الفكر و الواقع, على العقل والمنطق, وكيان يميل إلى القلب والإحساس, إلى الشعور والعاطفة, إذا بعد الإنسان على قطب تراه متركزا على الثاني.


توازن الحياة يكمن في التوفيق بينهما, فغياب قواعد و مبادئ العقل يجعل الإنسان عاطفيا بحتا ما يجعله ضعيفا غير مدرك يشتكي قلة إنجازاته؛ و من غلب عليه الطابع العقلاني تجده صارما حتى مع من يتوقع منه عطفا و رحمة, غير محس بحياته يشتكي فرار الناس من حوله. فالنفس تصارع العقل بإحساسها وتركيبتها العاطفية, وهذا الأخير يجادلها بالأرجح على حسب تركيبته المادية والمنطقية.
فإذا نضجت النفس ورعاها العقل, وأدرك العقل وخضعت له النفس فيسمى الإنسان عبقريا حكيما, ولا نجد توازنا وتكاملا للحكمة والعبقرية عند أحد غير خير الخلق محمدا عليه أفضل الصلاة والتسليم, فكانت له رؤية متكاملة الأبعاد وسخرت له أعظم الحضارات, كان معلمه خالقه الذي قال له :(اقرأ...) ,وكان خلقه القرآن ومرجعه رب الأكوان.


للنفس أهداف لا يمّكنها للواقعية إلا العقل وهذا توازن وتكامل, ومن أعظم نتائج هذه العلاقة هي الفكرة, الفكرة هي طموح جديد يتسلمه العقل, وعكس الفكرة هو الخيال أو الخرافة, الخيال هو خدعة تمكنت من النفوس وأخمدت الأفكار. والخيال هو الجهل, والجهل هو غياب إحساس الروح مع خمود الفكر وخمول العقل.


حال الأمة الإسلامية اليوم هو مرحلة جاهلية مزينة بالخيال, سبات ماتت فيه الروح وضاع فيه العقل وتاه المسلم بين رياح تغدو متهمة إياه بالتطرف فتراه ينفضها حتى ولو عارضت عقيدته, ورياح تبتزه بالرجعية والجهل فتراه فاتحا لباب من أبواب الحضارة المزعومة حتى ولو كلفته فتنة مجتمعه. المسلم اليوم معرّض للنقد في عقيدته وكيانه في جوهره ومظهره وحياته.


لم يا ترى تنحط مجتمعاتنا وتتشتت أفكارنا؟ ويصعب علينا القيام بمبادئنا التي باتت هباء وحلما؟ بل صعب علينا القيام بشريعتنا والارتقاء بها, وبعدت واختفت أشعة الحلول لمشكلتنا في ظلام العولمة اليوم؟ فهل من حل لمشكلة باتت قائمة بل عظمت وانتشرت لتمس كل مجالات وكل ما يخص المؤمن المسلم؟


هنالك دائما زمن يقوم على ردود الأفعال, وفي زمننا ردة فعلنا كانت إعادة الرؤيا في كياننا وقيمنا, في عقيدتنا وجوهر وجودنا, وما كان ينبغي فعله هو أن نعرف ما الذي أوصلنا لهذا الطريق الذي يعاكس فيه خيال مجتمعنا مع عقيدتنا لتوحيد خالقنا.


قال مالك بن نبي :" إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته, ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بمشكلته إلى الأحداث الإنسانية, وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها" انتهى كلامه رحمه الله.
من أسباب انحطاط الأمة ومن أهمها :


أولا : أتنفي عقيدتنا صداقة المجتمع الغربي؟


يقول الشيخ ابن العثيمين : ...مما يجب علينا علمه الولاء والبراء ، وهو أصل عظيم جاءت فيه النصوص الكثيرة "نذكر منها" قول الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)
وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23)
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة:22)


ولأن موالاة من حاد الله ومداراته تدل على أن ما في قلب الإنسان من الإيمان بالله ورسوله ضعيف ؛ لأنه ليس من العقل أن يحب الإنسان شيئاً هو عدو لمحبوبه ، وموالاة الكفار تكون بمناصرتهم ومعاونتهم على ما هم عليه من الكفر والضلال ، وموادتهم تكون بفعل الأسباب التي تكون بها مودتهم فتجده يوادهم أي يطلب ودهم بكل طريق، وهذا لا شك ينافي الإيمان كله أو كماله ، فالواجب على المؤمن معاداة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب إليه، وبغضه والبعد عنه ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته للحق. انتهى كلامه رحمه الله (شرح ثلاثة الأصول لشيخ العثيمين)


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يوجد مؤمن يواد كافرا، فمن واده فليس بمؤمن).


إن عقيدتنا تنفي صداقتهم, ولو كانت على صور محبة ,أو مودة ,أو تقرب, أو تأثر , أو تقليدهم, أو الاحتفال معهم, فما هي إلا صور نقر فيها ونرضى بكفرهم ولو كانت على غير نيتنا, فإذا كنا نقلدهم في شؤون الحياة مثلا, لا يصح أن نقول أننا لا نقر كفرهم.


فعلى المؤمن المسلم, أن يعرف من يوالي, ومن أهمية الولاء ومكانته جعله العلماء باب في العقيدة. والفطرة تؤيد والعقل يؤكد فكرة موالاة المؤمنين لا غيرهم, قال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (سورة التوبة:71)
ومن كلام الشيخ العثيمين فيما سبق, بعدما أكد اجتناب موالاة المشركين قوله : " ولكن هذا لا يمنع نصيحته ودعوته للحق" وهذا الاستثناء في الاحتكاك معهم والتعاطي معهم يجرنا إلى عامل أساسي آخر...


ثانيا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


إن الإنسان يتأثر بما يراه, ويسمعه, ويعيشه, ويحتك به في المجتمع ويتأثر بكل العوامل الخارجية, إضافة إلى دور الشيطان في فساد المجتمعات, فكل من هذا وذاك ما هي إلا مغريات تحيط بالإنسان, قال حمد الغيهبان المري رحمه الله:


                                     إبليس والدنيا ونفسي والهوى           كيف النجاة وكلهن أعدائي


فشرع الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف, و أمر به فقال: (وَلتكُن مِنكُم أُمّة يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وأُولئك هُمُ المفلحِونَ) (سورة آل عمران:104)
و قال أيضا : ( كُنتُم خَيرَ أُمّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمرُونَ بِالمعرُوفِ وَتَنهونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمِنونَ بِاللهِ ) (سورة آل عمران:110)


ربط الله سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالفلاح مرة وبالأيمان مرة, (المخاطب بهذه الآية هم المؤمنون كافة...وهي واضحة الدلالة على الوجوب, من جهة الأمر في قوله تعالى: (ولتكن), ومن جهة أخرى حصرت الآية الفلاح بهذا العمل...واستدل أغلب الفقهاء على أن الوجوب كفائي, وفي الآية الثانية قرنت الآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيمان بالله تعالى ، وقدّمتهما عليه لأنهما سياج الإيمان وحفاظه) (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)


إن صاحب المنكر يسيء لحاله ويظلم نفسه, بل يستوجب على أمته غضب الله وعلى مجتمعه مقته, بسوئه وسوء عاقبته في الدنيا قبل الآخرة.
إن فاعل المنكر وصاحبه إذا لم ينصح ويوقف عند حده, لرأيت أخوه الأول ضعيف الإيمان في المجتمع تأثر به وتبعه, وهز قيم الثاني, ولفت نظر الثالث. إن المنكر إذا لم يجد من يغيره, فشي في المجتمع, ومجتمع المنكرات يعمه الله بالعقوبة الشاملة والعذاب العام وإن كان فيه عبّاد زهاد, ومحسنون.
سألت زينب بنت جحش رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: " نعم إذا كثر الخبث" متفق عليه


فما نراه اليوم من أصحاب المنكرات والقلوب المريضة المنادون بالحريات الشخصية, والحريات التي يعنونون بها التعدي على حدود الله, وقولهم بأنهم يحاسبون بأفعالهم فما شأن غيرهم بهم ودعوتهم, ونهيهم, وتقييدهم, فهو باطل يظلمون به غيرهم.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو حماية للمجتمع قبل الفرد, لأن الأمة معرضة لما يفعله سفهاؤها, وضياع هذا الواجب من أهم عوامل نزول الآفات, والعذاب على البشرية.


فالأمر بالمعروف هو تعريف للإسلام بكل تفاصيله وأبعاده ومعانيه, وهو في أصله طاعة,  وأفضل دليل على ذلك هي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حينما ولاه على أحد البلدان, قال عليه أفضل الصلاة والتسليم :"  يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة ، وانزل الناس منازلهم ـ خيّرهم وشرهم ـ وأنفذ فيهم أمر الله... وأمت أمر الجاهلية إلاّ ما سنّه الإسلام ، واظهر أمر الإسلام كلّه ، صغيره وكبيره ، وليكن أكثر همّك الصلاة فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين ، وذكّر الناس بالله واليوم الآخر واتبع الموعظة" (مجمع البيان في تفسير القرآن)


ويوجب الأمر بالمعروف والنهي على المنكر على حضور ركائز الشخصية وهي العقل والقلب, فالعاطفة والمنطق هاهنا التقتا على وحدة الشخصية لتوحيد الخالق, ليكون الأمر والنهي بكل قوى جوارحنا للدعوة لطاعته واجتناب نواهيه ومعصيته.


عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم


نفهم من الحديث أن تغيير المنكر واجب يتم على مستويات:
المستوى الأول: في قوله عليه الصلاة والسلام التغيير باليد هو لمن له الولاية والمسؤولية كالوالدين بالبيت, يأمران الأبناء بطاعة الله ونهيهم عن معصيته.
المستوى الثاني: ويأتي اللسان إن عجز الإنسان للتغيير باليد, ويأتي دور الموعظة والتذكير, بأساليب الرقيقة ليلين القلب وتخضع الجوارح, مع تبيان عقاب المنكر والثواب إذا تم التغيير.
المستوى الثالث: وهو التغيير الذي لا رخصة لمن تركه كما أجمع العلماء, بل يجب ترك المنكر واجتنابه مع بغضه. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد : جهادٌ بأيديكم ، ثم الجهاد بألسنتكم ، ثم الجهاد بقلوبكم ، فمتى لم يعرف قلبه المعروف وينكر قلبه المنكر انتكس "


إن محاربة المنكر تعفينا من مقت الله وغضبه بل ومن لعنته والعياذ بالله, يقول الله فيها : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) ( المائدة : 78 – 79 )


المجتمع رقعة الكل مسؤول عنها, وأعظم مثال على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام...
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) رواه البخاري. إن مع صفاء نية الموجودين بالأسفل وهي عدم إحراج من هم في الأعلى, في كل مرة أرادوا ماءا, إلا أن خرق السفينة للتزود بالماء مضر بهم أجمعين, فما أبلغ تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام المجتمع بالسفينة, وتشبيه المنكر بخرقها.


إن هاذين السببين الرئيسيين في حال الأمة اليوم يؤديان بنا إلى الآية (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد11)


كيف نرجو نصرة الله, وارتكبنا جم المحرمات, ولم نبقي من الفواحش شيئا بل ويتعجب الغرب في بعض ما نصنعه من ربا, أليس بلداننا هي أكثر البلدان تعاملا بالربا؟ ألا يوجد محلات خمر في مجتمعاتنا بل مصانع تحت عنوان "تقوية الاقتصاد"؟ ألم يصبح الزنا شيئا متعاطا بين شبابنا وفي شارعنا حتى أصبحت بعض الأماكن يستحي المرء التردد عليها مع عائلته؟ ألم تصبح الموضة معرضا لفتن المرأة, حتى نساء الغرب يتعجبن من تبرج نسائنا؟ ألم نجعل للأغاني نصيبا من يومنا والقرآن وقت الموت والعزاء؟ ألم نجعل المجتمع الغربي مثلا يقتدى به الصغير قبل الكبير؟
ألم نر الذل الذي نعيشه؟ وتبعية الغرب والاستسلام لهم اقتصاديا, وسياسيا وحتى فكريا؟ ألسنا نعيش الهوان جراء التبعية؟ ألم تصبح لغتهم لغة البرجوازية, ولغتنا لغة الرجعية في مجتمعاتنا؟ ألم يتمكنوا من جعل إعلامنا أصم؟ ألم يتمكنوا من جعل الفتن متداولة بيننا؟ ألم يجعلوا ديننا عنوانا للعنف والتخلف؟


إن السنة الربانية أساس, والنجاة هي تغيير الجوهر ليتبعه المظهر, وما عرف سببه بطل عجبه, ما يصيب الأمة الإسلامية اليوم في مشارق الأرض ومغاربها هو نموذج حياتنا, والكل مسؤول عنه, فمن تقصيرك وتقصيري, تحول النعم ويبعد النصر ويذهب الرزق وتحل الذلة, ويحال بين المرء وخالقه.
صدق عمر رضي الله عنه حينما قال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله"


                                                                                                                    بقلم محمد أمين زميرلين

وزارة الاوقاف و الشؤون الاسلامية - إدارة الدراسات الإسلامية